شى على المجلس العسكري الحاكم في مصر من ابتزاز بعض المثقفين،
ذلك أنه بعد التدمير المنظم لمؤسسات المجتمع المدني في مصر، وفي غياب أوعية تعبر عن ضمير المجتمع وأشواقه. فإن وسائل الإعلام صارت المنبر الوحيد تقريبا الذي يمكن أن ترفع من خلاله الأصوات، وتوجه الرسائل إلى السلطة والمجتمع.
وهو اعتبار لم يكن غائبا عن أجهزة النظام السابق، بدليل أنها وزعت قوائم على القنوات التلفزيونية الخاصة والعامة بمنع أسماء معينة من الظهور في برامجها، كما أن السياسة ذاتها اتبعت مع الصحف القومية التي أقصيت منها أسماء كثيرة، ولدي خبرات شخصية في هذا الصدد ربما فصلت فيها يوما ما.
كانت نتيجة ذلك الوضع أن شرائح معينة من بين الإعلاميين والمثقفين سمح لها بأن تتصدر الواجهات وتحتكر منابر التعبير، حتى أصبحت صاحبة الصوت الأعلى، وتحولت بمضي الوقت إلى مركز قوة جذب أطيافا متعددة، ربما اختلفت في توجهاتها السياسية والفكرية، لكن ظل القاسم المشترك الأعظم بينها الذي اتفقت فيه مع النظام السابق هو الحساسية إزاء التوجه الإسلامي بشكل عام، وإساءة الظن بمختلف الفصائل المنتمية إليه، ولذلك ظل إقصاء المنسوبين إلى تلك الدائرة من مسلمات تلك الشرائح «وثوابت» موقفها.
لم يختلف الأمر من هذه الزاوية بعد قيام ثورة 25 يناير، يؤيد ذلك أن تلك الشرائح استنفرت حين شكل المجلس العسكري لجنة تعديل الدستور، التي ضمت ثمانية من كبار رجال القانون، وتبين أن أحدهم عضو في جماعة الإخوان المسلمين،
في حين رأسها المستشار طارق البشري وهو قانوني ضليع ومؤرخ للحركة السياسية في مصر حقا، ولكن يعيبه ــ من وجهة نظرهم ــ إنه مسلم ملتزم غيور على دينه، هذه الخطوة أثارت قلق إخواننا هؤلاء، باعتبارها خرقا لثوابت الإقصاء المتعارف عليها، حتى أزعم أن بعضهم حدد موقفه الرافض للتعديلات لهذا السبب وحده.
شهدت قبل أسابيع قليلة لقاء للكتاب والمثقفين مع ثلاثة من ممثلي المجلس العسكري، وفيه انتقد أحد الشعراء بانفعال وغضب شديدين فكرة أن يكون واحد من الإخوان عضوا في لجنة الثمانية،
كما استهول أن يرأس اللجنة رجل «قريب جدا من الإسلاميين» (هكذا قال)
ــ ذكر آخر معاتبا أن الناس بدؤوا يتشككون في موقف أعضاء المجلس، مضيفا أن كثيرين باتوا يتساءلون:
كم عدد المتعاطفين مع الإخوان بين أولئك الأعضاء، وكنت قد أشرت في مقال الثلاثاء الماضي 5/4 أن رئيس تحرير إحدى الصحف الأسبوعية (الفجر 4/4) ذكر أن الثورة ماتت لأن أهل السلطة تركوا للإخوان مهمة تعديل الدستور (حين ضم واحد منهم فقط إلى لجنة الثمانية!).
لست أشك في أن أعضاء المجلس العسكري سمعوا من آخرين أيضا أمثال تلك الانتقادات والغمزات كما أنني لا أشك في أنهم طالعوا أو تابعوا تعبيرات أخرى عن ذات الموقف فيما نشرته أو بثته مختلف وسائل الإعلام، لذلك فإنني لا أستبعد أن يكون بعض أعضاء المجلس العسكري قد تأثروا بتلك الضغوط، ومن ثم حاولوا أن يدفعوا عن أنفسهم «الشبهة» أو «التهمة» التي رماهم بها أولئك النفر من المثقفين،
على الأقل فما قاله اللواء محمد مختار الملا مساعد وزير الدفاع وعضو المجلس العسكري في لقائه مع القيادات الصحفية قرينة دالة على ذلك، فقد نشرت له جريدة الأهرام في عدد الثلاثاء 5/4 قوله في ذلك اللقاء إن المجلس (العسكري) لن يسمح لقيادات متطرفة بالسيطرة على مصر،
وكان العنوان الرئيسي للصفحة الأولى أن مصر لن تكون إيران أو غزة،
وهو خطاب يعيد إلى الأذهان لغة مرحلة «المحظورة»، إذ لا أظن أنه يقصد السلفيين أو المتصوفة بالإشارة الأولى، ثم إن غمزه في غزة التي تديرها حكومة حماس ترجح المعنى الذي خطر لي، علما بأن حماس في غزة لم تقفز على السلطة ولكنها تولتها بعد انتخابات حرة فازت فيها بأغلبية الأصوات في المجلس التشريعي، أما ذكره لإيران فلا وجه للمقارنة به، لأن نظامها القائم على ولاية الفقيه التي هي من خصوصيات المذهب الشيعي التي لا تتطابق مع ظروف مجتمعات أهل السنة.
لم أسترح لقول اللواء الملا أيضا إن المجلس العسكري لن يسلم السلطة ويذهب إلى شرم الشيخ، بما يعني أنه لن يتنحى، وإنما سيظل ساهرا على حماية النظام الجديد، وهي إشارة تبدو متأثرة بدعوات بعض المثقفين إلى استلهام النموذج التركي في نظام الحكم، الذي بمقتضاه ظل الجيش حارسا للعلمانية ووصيا على السياسة،
وهي رسالة غير بريئة لأن ذلك الوضع فرض على تركيا قبل أربعين عاما، ثم تخلصت منه في مرحلتها الديموقراطية الراهنة، التي انتقلت إليها في عام 2002، بعدما تولي السلطة حزب العدالة والتنمية، علما بأن تركيا وهي تحت وصاية الجيش شهدت أربعة انقلابات عسكرية.
لا تزال ثقتنا كبيرة في مواقف المجلس العسكري ونزاهته السياسية، وهذه الثقة هي التي تدفعنا إلى التحذير من ابتزاز بعض المثقفين ممن يتمتعون بكثير من المعرفة وقليل من البراءة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق