الاولى من كلية القانون مادة (علم الاجرام) وهو العلم الذي يدرس الجريمة من الوجهة الواقعية، بوصفها ظاهرة فردية اجتماعية، دراسة علمية، للكشف عن العوامل التي تسبب تلك الظاهرة. ويتناول هذا العلم بالتالي دراسة شخصية المجرم لبيان الأسباب التي دفعته إلى الإجرام، ويهتم ببيان خصائص المجرمين والتوصل من وراء ذلك إلى تصنيفهم. ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يتناول علم الإجرام أيضاً دراسة أفراد آخرين يكونون في حالة خطرة تنذر بوقوعهم في الجريمة مستقبلاً. وفي تعريف آخر، إن علم الإجرام هو علم دراسة الانحراف بحثاً عن أسبابه وأصله ووسائله ونتائجه. ويضيف بعض المحدثين إلى التعريف السابق القول إن علم الإجرام لا يهتم بالجرائم فقط بل يهتم كذلك بضحايا الجرائم والاعتداءات.
دعونا نسترجع معا النظريات التي تدرس السلوك الاجرامي
نظرية لومبروزو Lombroso:
يعتبر لومبروزو - أستاذ الطب الشرعي والعقلي في الجامعات الايطالية - الرائد في النظريات الفردية وبحكم امتلاك لومبروزو الروح التأملية فقد ساعده ذلك كثيراً في تفسير ما يدور حوله من الظواهر وخصوصاً السلوك الاجرامي لدى الأفراد.
لقد لاحظ لومبروزو بان (الجنود الاشرار يتميزون بعدة مميزات جسدية لم تكن موجودة في الجنود الاخيار). وذلك خلال عمله في مجال الطب الشرعي في الجيش الايطالي لبعض الوقت.
فمن المميزات التي لاحظها لومبروزو في الجنود الأشرار (الوشمات والرسوم القبيحة التي كانوا يحدثونها على اجسادهم).
هذا ما كان قد لاحظه مما يبدو للعيان على اجساد المجرمين، أما من خلال تشريح جثث الكثيرين من هؤلاء المجرمين فقد تبين له (وجود عيوب في تكوينهم الجسماني وشذوذ في الجمجمة... وانتهى لومبروزو من ذلك إلى أن المجرم نمط من البشر يتميز بملامح عضوية خاصة، ومظاهر جسمانية شاذة يرتد بها إلى عصور ما قبل التاريخ أو أن الإنسان المجرم وحش بدائي يحتفظ عن طريق الوراثة بالصفات البيولوجية والخصائص الخلقية الخاصة بانسان ما قبل التاريخ ومن بين هذه الخصائص صغر الجمجمة، وعدم انتظامها، وطول الذراعين، وكثرة غضون الوجه، واستعمال اليد اليسرى وضخامة الكفين والشذوذ في تركيب الأسنان إلى جانب عدم الحساسية في الشعور بالألم.الملامح العضوية التي تميز بين المجرمين. فالمجرم القاتل يتميز بضيق الجبهة، وبالنظرة العابسة الباردة، وطول الفكين وبروز الوجنتين، بينما يتميز المجرم السارق بحركة غير عادية لعينيه، وصغر غير عادي لحجمهما مع انخفاض الحاجبين وكثافة شعرهما وضخامة الانف وغالباً ما يكون أشولاً.
هذا ملخص لنظرية لومبروزو في السلوك الاجرامي والتي ركز فيها على وجود صفات عضوية يتميز بها المجرم عن غيره، وقد تعرضت نظرية لومبروزو إلى الكثير من الانتقادات القاتلة وتلك التي اضطرته في النهاية إلى إجراء تعديل عليها فادخل تأثير العامل العصبي في تفسير السلوك الاجرامي.
ومن الانتقادات التي وجهت لنظرية لومبروزو نذكر:
1) إن الحالات التي ركز لومبروزو جهوده عليها في تجاربه لم يكن اصحابها من الكثرة بحيث يمكن استخلاص قانون عام يمكن تطبيقه على جميع الحالات الاجرامية، وهذا من الأخطاء الفظيعة التي وقع فيها لومبروزو في صياغة نظريته.
2) تركيزه على الجانب العضوي والمبالغة فيه كعامل للسلوك الاجرامي، واهماله بل انكاره تأثير العوامل الأخرى - بيئية، واجتماعية، وغيرها - في سلوك المجرم.
3) اعتبار بعض المظاهر التي يحدثها أي إنسان فضلاً عن الإنسان المجرم علامة على كون محدثها مجرماً، وذلك من قبيل إحداث الوشم وتحمل الألم لأجله، فهذا دليل - حسب قول لومبروزو - على عدم الإحساس بالألم، وبالتالي فإن عدم الإحساس بالألم من صفات المجرمين.
وكذلك مسألة استخدام اليد اليسرى علامة على السلوك الإجرامي.
لكن ومع الانتقادات الكثيرة التي وجهت لنظرية لومبروزو فسوف يظل لومبروزو (المؤسس الأول لعلم الانتروبولوجيا الجنائية أو الإنسان المجرم كعلم مستقل تجاه العلوم الاجتماعية... أما نظريته البيولوجية في عوامل تكوين الظاهرة الاجرامية فيكفيها أنها الدراسة الأولى التي استخدمت المنهج العلمي في تفسير الظاهرة الاجرامية).
* نظرية دي تيليو Di Tullio (نظرية التكوين الإجرامي):
جاءت نظرية دي تيليو كرد فعل على نظرية لومبروزو التي ركزت - كما تقدم - على وجود (المجرم بالتكوين) ودي تيليو وإن اتفق مع لومبروزو على وجود المجرم بالتكوين إلا انه أنكر كونه عاملاً وحيداً للسلوك الإجرامي، وإنما يشكل مع غيره من العوامل الاجتماعية عاملاً مركباً للسلوك الإجرامي.
لقد اتفق دي تيليو مع لومبروزو من حيث المبدأ بادئ ذي بدء إلا انه بدأ يتحول تدريجياً ورويداً رويداً(من فكرة المجرم الحتمي بالتكوين إلى فكرة المجرم الاحتمالي)
وتتخلص نظرية دي تيليو باعتقاده بوجود ميل واستعداد للاجرام لدى الشخص المجرم وذلك إثر تكوين خاص للشخصية الفردية، واتسامها بصفات عضوية ووظيفية وراثية أو طبيعية أو مكتسبة من البيئة لقد فرق دي تيليو (بين صورتين رئيسيتين للاستعداد الإجرامي: الأولى عرضية والثانية ثابتة.
فالأولى: هي عوامل فردية واجتماعية اقوى من قدرة الجاني على ضبط مشاعره فتحرك عوامل الجريمة ليديه ومن أنواعها الحقد والغيرة.
والثانية: متجسدة في تكوين الإنسان وتتركز في ناحيتي التكوين العضوي والنفسي للشخصية الفردية وهذا ما يسميه أيضا دي تيليو الاستعداد الأصيل للاجرام المنبعث عن شخصية الجاني والذي يمثل مصدراً للجرائم الخطيرة).
لقد اعتبر دي تيليو بان لافرازات الغدد اثرها الكبير على سير أجهزة الجسم، والتي لها انعكاساتها في الوقت ذاته على مظاهر الحياة النفسية للانسان، وبالتالي على معالم شخصيته، وقد خلص دي تيليو في النهاية إلى وجود (نموذج بشري غددي اجرامي).
إن نظرية دي تيليو وان لم تسلم من النقد كذلك إلا أنها تعتبر بالنسبة لعلم الإجرام اكثر النظريات قبولاً، ومن الانتقادات التي تعرضت لها النظرية نذكر:
1) لقد بالغت النظرية في اعتبار تأثير الجانب العاطفي المختل في سلوك المجرم، وهذا يعني أن نظرية دي تيليو كانت كغيرها تقريباً في التركيز على الجانب الواحد.
2) إن دي تيليو وقع فيما وقع فيه لومبروزو في استخلاصه قانوناً عاماً من حالات قليلة اخضعت للتجارب لا ترقى إلى مستوى استخلاص القانون العام.
3) اهماله جانب المقارنة بين المجرمين والأسوياء والذي يعد على جانب كبير من الأهمية.
* مدرسة التحليل النفسي
ينصرف ذهن الإنسان حين يذكر اسم مدرسة التحليل النفسي إلى مؤسسها العالمسيجموند فرويد (Sigmund Freud 1856 - 1939)، والذي اتفق مع المدرسة التكوينية في ارجاع السلوك الإجرامي إلى العوامل الفردية، إلا انه اختلف معها في كون هذه العوامل نفسية لا عضوية. وللوقوف على حقيقة نظرية التحليل النفسي لابد لنا من ذكر التحليل الذي قام به فرويد للنفس الإنسانية كي يتسنى لنا فهم ما يقوله في نظريته.
لقد قسّم فرويد النفس الإنسانية إلى ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: النفس ذات الشهوة (الذات الدنيا) ويرمز لها بالرمز (ID) والذي يعني (هو) وتحوي هذه المرتبة من النفس الميول الفطرية، والاستعدادات الموروثة، ويتركز اهتمام هذه المرتبة من النفس على الانسياق وراء الشهوات، وارضاء الغرائز بأية طريقة ممكنة بغض النظر عن اعتبارات المثل والقيم والمبادئ النبيلة.
المرتبة الثانية: الذات الشعورية أو الحسية (العقل) ويرمز لها بالرمز (EGO) ويعني (الأنا) وهي (مجموعة الملكات العقلية المستمدة من رغبات النفس بعد تهذيبها وفقاً لمقتضيات الحياة الخارجية) وتتمثل وظيفة هذه المرتبة من النفس بالسعي نحو إيجاد نوع من التوازن بين الميول الفطرية والاستعدادات الموروثة من جهة، وبين متطلبات البيئة الخارجية من المثل العليا، والقيم، والأخلاق، والعادات والتقاليد. إذن فهي بمثابة الكابح بالنسبة إلى المرتبة الأولى، لحملها على التعبير عن نزعاتها بالشكل الذي ينسجم مع مقتضيات البيئة، ولا يتعارض مع ما تأمر به (الأنا العليا) وهي المرتبة الثالثة كما سيأتي.
المرتبة الثالثة: الذات المثالية (الضمير) ويرمز لها بالرمز (super - EGO) الذي يعني (الأنا العليا): وتتجسد هذه المرتبة بمجموعة المثل والقيم والتقاليد والعادات الموروثة عن الأجيال السابقة، وكذلك المكتسبة من البيئة الاجتماعية الحالية.
وتعمل هذه المرتبة (الأنا العليا) على محورين، فهي من جهة تمثل المصدر الحقيقي لردع المرتبة الأولى (هو) عن الانفلات من مقتضيات البيئة الخارجية، ومن جهة أخرى تمد (الأنا) بالقوة اللازمة للقيام بوظيفتها المباشرة في ردع وكبح جماح المرتبة الأولى من النفس.
وعلاوة على هذين المحورين هناك وظيفة ثالثة تتكفل بها الأنا العليا وتتمثل بمراقبة (الأنا) في أداء وظيفتها ومحاسبتها عند أي تقصير في أداء هذه الوظيفة.
وبعد أن قدمنا هذه المقدمة التحليلية الفرويدية للنفس الإنسانية نأتي إلى تلخيص رأي فرويد في عوامل السلوك الإجرامي - فنقول:
(يرى فرويد أن السلوك الفردي يتوقف على مدى العلاقة بين الأقسام الثلاثة السابقة للنفس الإنسانية. فإذا تغلبت الشهوات والميول الفطرية (النفس ذات الشهوة)، فإن السلوك يكون منحرفاً، وتكون شخصية صاحبه غير ناضجة، أما إذا تغلبت المثل والقيم الموروثة، وتحكم الضمير والعقل (الأنا العليا) كان السلوك قويماً وكانت شخصية صاحبه ناضجة).
وللزيادة في التوضيح نقول أن فرويد قسم الذات الشعورية أو العقل (الأنا) - المرتبة الثانية للنفس - إلى ثلاثة أقسام:
1) الشعور: (العقل الظاهر): وهو وسيلة الوعي والإحساس والادراك المباشر.
2) ما قبل الشعور: (العقل الكامن): مجموعة الأفكار والنزعات والذكريات القابلة للاستظهار والتي يمكن للفرد تذكرها واسترجاعها.
3) اللاشعور: (العقل الباطن): وهو مجموعة الأفكار والخواطر التي ليس في وسع الإنسان استرجاعها وتذكرها إلا في الحالات الشاذة كالحلم، والحمى، والتنويم المغناطيسي.
ثم دمج فرويد بين الأول والثاني باسم الشعور (العقل الظاهر) فصارت أقسام الذات الشعورية اثنين فقط هما:
العقل الظاهر، والعقل الباطن.
وعلل فرويد الدمج بوجود قوة خفية من شأنها صد الخواطر والذكريات عن الظهور في منطقة الشعور لسببين:
الأول: كون هذه الذكريات والخواطر ضد العادات والتقاليد وقيم المجتمع.
الثاني: كون هذه الذكريات من النوع الذي لا يقوى الشعور على تحمل ما يصاحبها من الآلام قد اطلق فرويد على هذه القوة الصادة اسم قوة الكبت (Repression).
خلاصة القول: إن فرويد يرى لقوة الكبت هذه ابلغ الأثر في سلوك الإنسان، يفوق في قوته وتأثيره قوة وتأثير الشعور على الإنسان. إن قوة الكبت هذه تحوي ذكريات الطفولة، والحوادث النفسية المكبوتة، (فإذا كانت تربية الإنسان حيث كان طفلاً قائمة على أسس متوازنة توفق بين الرغبات والميول وبين أصول التربية النفسية السليمة، فإن من شأن ذلك تصعيد الرغبات المكبوتة تصعيداً متسامياً صحيحاً، وإلا اصبح الكبت مرضياً، وكان الفرد معرضاً في مستقبل حياته للامراض العصبية، والاضطرابات النفسية والتي قد تؤدي إلى نشأة العقد النفسية)، وقد أعطى فرويد إلى العامل الجنسي القدر الأكبر من التأثير في السلوك.
وبالاضافة إلى تلك الصفات العامة وقف لومبروزو على بعض
نقد نظرية فرويد
تعرضت نظرية التحليل النفسي كغيرها من النظريات الفردية إلى العديد من الانتقادات نذكر منها:
1) لقد اخطأ فرويد (في نظريته عن الغريزة الجنسية، واعطى للدافع الجنسي أهمية تفوق ما يستحق في الواقع فقد اقام فكرته على أساس مبدأ اللذة، واعتبر سعادة الناس وشقائهم منوطين بكيفية اشباع غريزة التلذذ، ونجاحهم أو عدم نجاحهم في إرضاء الشهوة الجنسية)
بعبارة أخرى وقوع النظرية في التركيز على العامل الواحد في تفسير ظاهرة السلوك الإجرامي.
2) (إن الأخذ بمنطق المدرسة التحليلية يقودنا إلى التسليم بحتمية الوقوع في الجريمة تبعاً للصراع الذي يتم في الجانب اللاشعوري من النفس البشرية، وما يصاحبه من خلل أو اضطراب نفسي. ولكن هذا يتعارض مع اعتبار الجريمة مخلوقاً قانونياً يتجاوب مع متطلبات الحياة الاجتماعية)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق